القول الفصل الأغر** في حكم وضع الجريد على القبر
تأليف أبي عبد الله محمد بن
محمد المصطفى الأنصاري
المدينة النبوية ،
مكتبة المسجد النبوي
قسم البحث والترجمة
1424 هـ
gs
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله والصلاة والسلام على رسـول الله صلى الله عليه وسلم القائل إذا مات الإنسان انقطع عمله إلا من ثلاث :صدقة جارية ، أو علم ينتفع به ، أو ولد صالح يدعو له ( ). والقائل: ( اللهم رب جبريل وميكائيل وإسرافيل فاطر السموات والأرض عالم الغيب والشهادة أنت تحكم بين عبادك فيما كانوا فيه يختلفون اهدني لما اختلف فيه من الحق بإذنك إنك تهدي من تشاء إلى صراط مستقيم ) (2) ،
وبعد فهذا تلخيص لأقوال بعض أهل العلم في مسألة وضع الجريدة الرطبة على القبر أو نحوها هل ذلك خاص بالنبي صلى الله عليه وسلم أم أنه حكم عام للمسلمين ، وسأذكر مذاهب العلماء ونصوصهم وأدلتهم وأقارن بينها ، وأرجح ما هو الراجح عندي في هذه المسألة بالدليل إن شاء الله تعالى ، أسأل الله عز وجل أن يفقهنا في دينه ، وأن يهدينا لما اختلف فيه الحق إلى صراط مستقيم إنه على كل شيء قدير ، وأن يجعله خالصاً لوجهه الكريم ، وأن ينفع به من قرأه إنه ولي ذلك والقادر عليه إنه على كل شيء قدير .
حكم وضع الجريدة الرطبة أو نحوها على القبر
اختلف العلماء في ذلك على قولين :
القول الأول :
أن وضع الجريدة الرطبة أو نحوها على القبر جائز ومسنون ،
ـــــــــــ
وهو مذهب أبي حنيفة ( ) ، ومالك ( ) ، والشافعي ( ) ، وأحمد( ) .
نصوص بعض علماء المذاهب الأربعة
مرتبة على حسب تاريخ وفيات الأئمة الأربعة وترتيبهم السابق .
الحنفية :
قال ابن عابدين وغيره : مطلب في وضع الجريد ونحو الآس على القبور :
تتمة يكره أيضا قطع النبات الرطب والحشيش من المقبرة دون اليابس كما في البحر و الدرر و شرح المنية وعلله في الإمداد بأنه ما دام رطباً يسبح الله تعالى فيؤنس الميت وتنزل بذكره الرحمة . ونحوه في الخانية أقول ودليله ما ورد في الحديث من وضعه عليه الصلاة والسلام الجريدة الخضراء بعد شقها نصفين على القبرين اللذين يعذبان ، وتعليله بالتخفيف عنهما ما لم يبيسا أي يخفف عنهما ببركة تسبيحهما إذ هو أكمل من تسبيح اليابس لما في الأخضر من نوع حياة وعليه فكراهة قطع ذلك وإن نبت بنفسه ولم يملك لأن فيه تفويت حق الميت ، ويؤخذ من ذلك ومن الحديث ندب وضع ذلك للاتباع ويقاس عليه ما اعتيد من وضع أغصان الآس ونحوه ( ) .
المالكية :
قال القرطبي : قوله عليه الصلاة والسلام : لعله يخفف عنهما ما لم ييبسا : إشارة إلى أنهما ما داما رطبين يسبحان فإذا يبسا صارا جماداًً والله أعلم ، قال : وفي مسند أبي داوود الطيالسي فوضع على أحدهما نصفاً وعلى الآخر نصفاً وقال لعله أن يهون عليهما العذاب ما دام فيهما من بلولتهما شيء قال علماؤنا : ويستفاد من هذا جواز غرس الأشجار على القبور ، والحمد لله على ذلك ( ) .
الشافعية :
قال الشربيني وغيره من علماء الشافعية : ويسن وضع الجريد الأخضر على القبر وكذا الريحان ونحوه من الشيء الرطب ولا يجوز للغير أخذه من على القبر قبل يبسه لأن صاحبه لم يعرض عنه إلا عند يبسه لزوال نفعه الذي كان فيه وقت رطوبته وهو الاستغفار ، ولأنه يخفف عنه ببركة تسبيحها ، وقيس بها ما اعتيد من طرح نحو الريحان الرطب ، ويحرم أخذ شيء منهما ما لم ييبسا ، وينبغي إبدال ما ذكر من الجريدة الخضراء ومن الرياحين كلما يبس لتحصل له بركة مزيد تسبيحه وذكره كما في الحديث ، ويحرم أخذ شيء منهما أي من الجريدة الخضراء ومن نحو الريحان الرطب ، وظاهره أنه يحرم ذلك مطلقا أي على مالكه وغيره ، وفي النهاية ويمنع مالكه أخذ من على القبر قبل يبسه ، وفصل ابن قاسم بين أن يكون قليلاً كخوصة أو خوصتين فلا يجوز لمالكه أخذه لتعلق حق الميت به وأن يكون كثيراً فيجوز ( ) .
الحنابلة :
قال ابن مفلح في كتابه الفروع والبهوتي في كتابه كشاف القناع :
وسن فعل لزائره ما يخفف عنه ولو بجعل جريدة رطبة في القبر للخبر ، وفي معناه غرس غيرها ( ) .
القول الثاني :
أن ذلك خاص ببركة يد النبي صلى الله عليه وسلم .
وهو قول الخطابي ، والطرطوشي من المالكية : ( ) .
وبه قال العلامة الشيخ عبد العزيز بن باز يرحمه الله ( ) .
نصوص أصحاب القول الثاني :
قال ابن مفلح والبهوتي بعد ما ذكرا سنية وضع الجريد الرطب على القبر : وقد أنكره جماعة من العلماء ( )
قال الشيخ العلامة بن باز يرحمه الله : الصواب في هذه المسألة ما قاله الخطابي من استنكار الجريد ونحوه على القبور لأن الرسول صلى الله عليه وسلم لم يفعله إلا في قبور مخصوصة اطلع على تعذيب أهلها ولو كان مشروعاً نفعله في كل القبور ، وكبار الصحابة -كالخلفاء - لم يفعلوه وهم أعلم بالسنة من بريـدة رضي الله عـن الجميع فتنبه ( ) .
قلت : لم أقف على اسم من أنكر ذلك من العلماء إلا الخطابي والطرطوشي والشيخ عبد العزيز بن باز يرحمهم الله جميعاً حيث قالوا : إن ذلك خاص بالنبي صلى الله عليه وسلم كما تقدم .
استدل أصحاب القول الأول بما يأتي :
الدليل الأول : عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما قال: مرَّ النبيصلى الله عليه وسلم بحائط من حيطان المدينة أو مكة، فسمع صوت إنسانين يعذبان في قبورهما، فقال النبي صلى الله عليه وسلم يعذبان وما يعذبان في كبير ثم قال: بلى، كان أحدهما لا يستتر من بوله ، وكان الآخر يمشي بالنميمة ، ثم دعا بجريدة فكسر كسرتين فوضع على كل قبر منهما كسرة، فقيل له: يا رسول الله لم فعلت هذا ؟ قال: لعله أن يخفف عنهما ما لم ييبسا أو: إلى أن ييبسا ( ) .
وفي رواية من حديث جابر بن عبد الله الطويل ..في قصة أخرى مشابهة وفيها فقمت فأخذت حجراً فكسرته وحسرته فانذلق لي فأتيت الشجرتين فقطعت من كل واحدة منهما غصناً ثم أقبلت أجرهما حتى قمت مقام رسول الله صلى الله عليه وسلم أرسلت غصناً عن يميني وغصناً عن يسارى ثم لحقته فقلت :قد فعلت
يا رسول الله فعم ذاك قال : إني مررت بقبرين يعذبان فأحببت بشفاعتي أن يرفه عنهما ما دام الغصنان رطبين ( ) .
الدليل الثاني :
أوصى بريدة بن الحصيب الأسلمي رضي الله عنه أن يجعل على قبره جريدتان ، ومات بأدنى خراسان ( ) .
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
الدليل الثالث :
عن حماد بن سلمة عن عاصم الأحول أن أبا العالية أوصى إلى مورق العجلي
وأمره أن يضع في قبره جريدتين ( ) .
وجه الدلالة:
دلت هذه النصوص على أن الجريدة الرطبة وما في معناها من رطب من أي شجر تسبح وتستغفر للميت ما لم تيبس ، قال ابن كثير : قال بعض من تكلم على هذا الحديث من العلماء : إنما قال ما لم ييبسا أنهما يسبحان ما دام فيهما خضرة فإذا يبسا انقطع تسبيحهما والله أعلم ( ) .
قال ابن دقيق العيد : الخامس : قيل في أمر الجريدة التي شقها اثنتين فوضعها على القبرين وقوله صلى الله عليه وسلم لعله يخفف عنهما ما لم ييبسا : إن النبات يسبح ما دام رطباً فإذا حصل التسبيح بحضرة الميت حصلت له بركته فلهذا اختص بحالة الرطوبة ( ) .
قال الشوكاني : روي عن عكرمة والحسن البصري أنهما خصا تسبيح النباتات بوقت نموها لا بعد قطعها وقد استدل لذلك بحديث أن النبي صلى الله عليه وسلم مر على قبرين وفيه ثم دعا بعسيب رطب فشقه اثنين وقال إنه يخفف عنهما ما لم ييبسا ( ) ، ولذلك قال الفقهاء : يستحب وضع الجريدة الرطبة وما في معناها من أي نبات رطب على القبر لفعل النبي صلى الله عليه وسلم ذلك ( ) .
استدل أصحاب القول الثاني : بما يأتي
الدليل الأول :
أن جعل الرياحين على القبر تخليق له وذلك منهي عنه ( ).
الدليل الثاني :
أن ذلك خاص ببركة يد النبي صلى الله عليه وسلم ( ) .
الدليل الثالث :
لأن الرسول صلى الله عليه وسلم : لم يفعله إلا في قبور مخصوصة اطلع على تعذيب أهلها ولو كان مشروعاً نفعله في كل القبور ، وكبار الصحابة -كالخلفاء لم يفعلوه وهم أعلم بالسنة من بريدة رضي الله عن الجميع فتنبه ( ) .
المناقشـــــــــــــــــــــة والترجيح:
بعد النظر في أدلة أصحاب القولين تبيَّن لي ما يأتي:
الأول: أن ما استدل به أصحاب القول الأول صحيح صريح وهو نص في محل النزاع .
الثاني: أن ما استدل به أصحاب القول الثاني فيه نظر لما يأتي :
الأول : قولهم بأنه بدعة غير صحيح ، كيف يكون بدعة وقد فعله النبي صلى الله عليه وسلم بوضعه الجريدة الرطبة على القبر كما في الصحيحين وغيرهما ؟؟
الثاني : ادعاء الخصوصية يحتاج إلى دليل ، ولم أقف على دليل هنا يدل على الخصوصية ، لأن : الأصل عدم الخصوصية ، وكونه صلى الله عليه وسلم أطلعه الله على تعذيب هذين القبرين لا يدل على الخصوصية ، لأن سائر القبور إما منعمة أو معذبة ، فإن كانت منعمة ليس ذلك بمانع من الدعاء أو الاستغفار لها ، وإن كانت معذبة فلعله يخفف عنها بوضع ذلك الجماد الرطب ما لم ييبس ، كما قال رسول الله صلى الله عليه وسلم ، قال الحافظ ابن حجر : لا يلزم من كوننا لا نعلم أيعذب أم لا أن لا نتسبب له في أمر يخفف عنه العذاب أن لو عذب ، كما لا يمنع كوننا لا ندري أرحم أم لا أن لا ندعو له بالرحمة ، وليس في السياق ما يقطع على أنه باشر الوضع بيده الكريمة بل يحتمل أن يكـون أمر به وقد تأسى بريدة بن الحصيب الصحـابي رضي الله عنه بذلك فأوصى أن يوضع على قبره جريدتان ( ).
الثالث : قولهم بأنه لم ينقل عن أحد من الصحابة غير بريدة رضي الله عنه لا عن الخلفاء الراشدين ولا عن غيرهم من كبار الصحابة رضي الله عنهم أجمعين . الجواب عنه : كما أنه لم ينقل عنهم فكذلك لم ينقل عنهم النهي عنه ،
ولا الاعتراض عليه ، ويكفي بأنه فعله رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وأوصى به بريدة بن الحصيب رضي الله عنه وأبو العالية من غير نكير من الصحابة والتابعين ، ولم ينقل إلينا أن أحداً من الصحابة والتابعين خالفهما في ذلك ولا اعترض عليهما لا من كبار هم ولا من صغارهم ، وقد يكون ذلك إجماعاً سكوتياً منهم على السنية أو الجواز ، ومن حفظ حجة على من لم يحفظ ، وعلى افتراض أنه لم ينقل عن أحد من الصحابة ، لا يجوز لنا العدول عن فعل رسول الله صلى الله عليه وسلم أو قوله صلى الله عليه وسلم إلى قول أحد كائناً من كان لا من الصحابة ولا من غيرهم إذ الحجة فيما قاله رسول الله صلى الله عليه وسلم ، أو فعله ، أو أقر عليه صلى الله عليه وسلم فنتعبد الله بما صح ووصل إلينا لا بما هو مسكوت عنه كما هو الحال هنا في هذه المسألة في فعل الصحابة غير بريدة رضي الله عنهم أجمعين . وقد بوب البخاري في صحيحه باب الجريد على القبر ، وهذا يدل على أنه يراه لأن المعروف أن فقه البخاري في تراجمه .
قال الحافظ ابن حجر : وأما ما رواه مسلم في حديث جابر الطويل المذكور في أواخر الكتاب أنه الذي قطع الغصنين فهو في قصة أخرى غير هذه فالمغايرة بينهما من أوجه منها أن هذه كانت في المدينة وكان معه صلى الله عليه وسلم جماعة وقصة جابر كانت في السفر وكان خرج لحاجته فتبعه جابر وحده ومنها أن في هذه القصة أنه صلى الله عليه وسلم غرس الجريدة بعد أن شقها نصفين كما في الباب الذي بعد هذا من رواية الأعمش وفي حديث جابر أنه صلى الله عليه وسلم أمر جابراً بقطع غصنين من شجرتين كان النبي صلى الله عليه وسلم استتر بهما عند قضاء حاجته ثم أمر جابراً فألقى الغصنين عن يمينه وعن يساره حيث كان النبي صلى الله عليه وسلم جالساً وأن جابراً سأله عن ذلك فقال إني مررت بقبرين يعذبان فأحببت بشفاعتي أن يرفع عنهما ما دام الغصنان رطبين ولم يذكر في قصة جابر أيضا السبب الذي كانا يعذبان به ولا الترجى الآتي في قوله لعله فبان تغاير حديث بن عباس وحديث جابر وأنهما كانا في قصتين مختلفتين ولا يبعد تعدد ذلك وقد روى بن حبان في صحيحه من حديث أبي هريرة أنه صلى الله عليه وسلم مر بقبر فوقف عليه فقال ائتوني بجريدتين فجعل إحداهما عند رأسه والأخرى عند رجليه فيحتمل أن تكون هذه قصة ثالثة ويؤيده أن في حديث أبي رافع كما تقدم فسمع شيئاً في قبر وفيه فكسرها باثنين ترك نصفها عند رأسه ونصفها عند رجليه وفي قصة الواحد جعل نصفها عند رأسه ونصفها عند رجليه وفي قصة الإثنين جعل على كل قبر جريدة أنها كسرتين بكسر الكاف والكسرة القطعة من الشيء المكسور وقد تبين من رواية الأعمش أنها كانت نصفاً وفي رواية جرير عنه باثنتين قال النووي الباء زائدة للتوكيد والنصب على الحال قوله فوضع وفي رواية الأعمش الآتية فغرز وهي أخص من الأولى قوله فوضع على كل قبر منهما كسرة ( ) .
قال العيني : في متن هذا الحديث ثم دعا بجريدة فكسرها كسرتين يعني أتي بها فكسرها ، وفي حديث جابر رضي الله تعالى عنه رواه مسلم
أنه الذي قطع الغصنين فهل هذه قضية واحدة أم قضيتان ؟ الجواب أنهما قضيتان والمغايرة بينهما من أوجه الأول أن هذه كانت في المدينة وكان مع النبي صلى الله عليه وسلم جماعة وقضية جابر كانت في السفر وكان خرج لحاجته فتبعه جابر وحده الثاني : أن في هذه القضية أنه عليه الصلاة والسلام غرس الجريدة بعد أن شقها نصفين كما في رواية الأعمش الآتية في الباب الذي بعده وفي حديث جابر أمر عليه الصلاة والسلام جابراً فقطع غصنين من شجرتين كان النبي صلى الله عليه وسلم استتر بهما عند قضاء حاجته ثم أمر جابراً فألقى غصنين عن يمينه وعن يساره حيث كان النبي صلى الله عليه وسلم جالساً وأن جابراً سأله عن ذلك فقال إني مررت بقبرين يعذبان فأحببت بشفاعتي أن يرفع عنهما ما دام الغصنان رطبين الثالث لم يذكر في قصة جابر ما كان السبب في عذابهما الرابع لم يذكر فيه كلمة الترحبي فدل ذلك كله على أنهما قضيتان مختلفتان ، بل روى ابن حبان في صحيحه عن أبي هريرة أنه صلى الله عليه وسلم مر بقبر فوقف عليه فقال ائتوني بجريدتين فجعل إحداهما عند رأسه والأخرى عند رجليه فهذا بظاهره يدل على أن هذه قضية ثالثة فسقط بهذا كلام من ادعى أن القضية واحدة كما مال إليه النووي والقرطبي ( ) .
وقد فرق الشيخ عبد الله بن الشيخ محمد بن عبد الوهاب رحمه الله في الدرر السنية في الأجوبة النجدية : بين الجريدة الرطبة والرياحين ، فقال في الرياحين أنه بدعة منهي عنه بخلاف الجريدة الرطبة أنها من السنة وذكر الحديث ( ).
ولاشك أن العبرة بالعمل الصالح وهو الذي ينفع الميت في قبره ، كما قال رسـول الله صلى الله عليه وسلم إذا مات الإنسان انقطع عمله إلا من ثلاث :صدقة جارية ، أو علم ينتفع به ، أو ولد صالح يدعو له ( ) .
وكما قال عبد الله بن عمر رضي الله عنه حين رأى على قبر عبد الرحمن بن أبي بكر الصديق رضي الله عنه فسطاطاً فقال : أنزعه يا غلام فإنما يظله عمله ( ). ولكن ما يمنع كونه انقطع عمله أو أنه يظله عمله أن ذلك لا يمنع انتفاعه لأن منطوق الحديث انقطع عمله ، ولم يقل انقطع انتفاعه ، لأن انتفاع الميت باق ، ينتفع بعمل الحي من صدقة ودعاء وقضاء دين عنه بإجماع الأمة ، وقد أخبرنا رسول الله صلى الله عليه وسلم أن وضع تلك الجريدة الرطبة على القبر تخفف عنه العذاب ما لم تيبس ، وفي ذلك منفعة له لأن : تخفيف العذاب من أعظم المنفعة ، وقياس كل نبات رطب سواء الريحان أو غيره على الجريدة الرطبة التي وضعها رسول الله صلى الله عليه وسلم على القبرين وقال: لعله يخفف عنهما ما لم ييبسا، قياس صحيح وسليم وليس هنالك ما يعارضه إلا أن يكون هناك مانع شرعي أو مفسدة تترتب على ذلك ، أو كان ذلك ذريعة لأي مخالفة شرعية ، وحينئذ درء المفاسد مقدم على جلب المصالح .
قال الحافظ ابن حجر : وقال الكرماني : شبه لعل بعسى فأتى بأن في خبره قوله يخفف بالضم وفتح الفاء أي العذاب عن المقبورين قوله ما لم تيبسا كذا في أكثر الروايات بالمثناة الفوقانية أي الكسرتان وللكشميهني إلا أن تيبسا بحرف الاستثناء وللمستملى إلى أن ييبسا بإلى التي للغاية والياء التحتانية أي العودان قال المازري : يحتمل أن يكون أوحي إليه أن العذاب يخفف عنهما هذه المدة . وعلى هذا فلعل هنا للتعليل قال : ولا يظهر له وجه غير هذا وتعقبه القرطبي بأنه لو حصل الوحي لما أتى بحرف الترجي كذا قال ولا يرد عليه ذلك إذا حملناها على التعليل ، قال القرطبي : وقيل إنه شفع لهما هذه المدة كما صرح به في حديث جابر لأن الظاهر : أن القصة واحدة وكذا رجح النووي كون القصة واحدة وفيه نظر لما أوضحناه من المغايرة بينهما وقال الخطابي : هو محمول على أنه دعا لهما بالتخفيف مدة بقاء النداوة لا أن في الجريدة معنى يخصه ولا أن في الرطب معنى ليس في اليابس ، قال وقد قيل إن المعنى فيه أنه يسبح ما دام رطباًًًًًًًًًً فيحصل التخفيف ببركة التسبيح وعلى هذا فيطرد في كل ما فيه رطوبة من الأشجار وغيرها ، وقال الطيبي : الحكمة في كونهما ما دامتا رطبتين تمنعان العذاب يحتمل أن تكون غير معلومة لنا كعدد الزبانية وقد استنكر الخطابي ومن تبعه : وضع الناس الجريدة ونحوه في القبر عملا ًبهذا الحديث ، وقال الطرطوشي : بأن ذلك خاص ببركة يده صلى الله عليه وسلم ،
وقال القاضي عياض : لأنه علل غرزهما على القبر بأمر مغيب وهو قوله ليعذبان ( ).
التعقيب : قال الحافظ ابن حجر: لا يلزم من كوننا لا نعلم أيعذب أم لا أن لا نتسبب له في أمر يخفف عنه العذاب أن لو عذب كما لا يمنع كوننا لا ندري أرحم أم لا أن لا ندعو له بالرحمة وليس في السياق ما يقطع على أنه باشر الوضع بيده الكريمة بل يحتمل أن يكون أمر به وقد تأسى بريدة بن الحصيب الصحابي بذلك فأوصى أن يوضع على قبره جريدتان وهو أولى أن يتبع من غيره ، وكذلك أبو العالية من التابعين ( ).
قلت :وأما وقت وضع الجريد على القبر
هل هو وقت الدفن أو وقت الزيارة ؟
الجواب : لا شك أن الذي يدل عليه الحديث وكلام فقهاء المذاهب السابق أنه وقت الزيارة لا وقت الدفن : لأن النبي صلى الله عليه وسلم مر على قبرين وقال إنهما ليعذبان وما يعذبان في كبير .. الحديث ( ) .
قال ابن مفلح ، والبهوتي : وسن فعل لزائره ما يخفف عنه ولو بجعل جريدة رطبة في القبر للخبر ، وفي معناه غرس غيرها ( ) .
وهذا كله يدل على أن وضع الجريد على القبر وقت الزيارة لا وقت الدفن .
وبهذا يتبيَّن لي رجحان ما ذهب إليه أصحاب القول الأول من جواز وضع الجريدة الرطبة أو نحوها من أي نباتٍ رطبٍ على القبر رجاء أن يستغفر ذلك الجماد الرطب لذلك العبد الذي في قبره مبتلى للأدلة التي استدلوا بها ،
إلا أن يكون هناك مانع شرعي أو مفسدة تترتب على ذلك ، أو كان ذلك ذريعة لأي مخالفة شرعية ، وحينئذ درء المفاسد مقدم على جلب المصالح . والله تعالى أعلم .
أسأل الله عز وجل أن يجعله خالصاً لوجهه الكريم ، وأن يهدينا لما اختلف فيه من الحق إلى صراط مستقيم ، وأن ينفع به من قرأه إنه ولي ذلك والقادر عليه ، وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين .
جمعه وكتبه أبو عبد الله محمد بن محمد المصطفى الأنصاري
المدينة النبوية في 15 / 4 / 1424 هـ